• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صناعة التغيير الاجتماعي عبر أسلوب اللاعنف

باسم حسين الزيدي

صناعة التغيير الاجتماعي عبر أسلوب اللاعنف

(إنّ ما يثير الدهشة هو أنّ صورة العنف أصبحت أكثر شدة وضراوة، وكذلك أكثر تكراراً)

الإمام السيِّد محمّد الشيرازي

قد تصاب بالإحباط وأنت تطالع أخبار وسائل الإعلام وتقارير المنظمات العالمية عن الكم الهائل لأحداث العنف، بكلّ أشكاله والوسائل المستخدمة فيه، التي مرت وتمر على المجتمعات الإنسانية في مختلف بقاع العالم، وكأنّها دوامة لا تنتهي من الدمار الذاتي للجنس البشري الذي أوصلته إلى حافة الهاوية وجعلت الكثير من الباحثين وغيرهم يؤمنون بأنّ الإنسان ميال بطبيعته إلى العنف ومن يمارسونه، بعد أن دبّ اليأس في نفوسهم وعقولهم بإحداث التغيير.

هذا التفكير قد يقود الإنسان إلى الاستسلام في نهاية المطاف، وترك الإصلاح، خصوصاً لمن يركز على الجانب الفارغ من الكأس، فالنهج العنفي في السلوك البشري هو «ظاهرة حديثة نسبياً ظهرت قبل أقل من عشرة آلاف سنة، ولم تكن حاضرة في المجتمعات البشرية إلّا بعد توطنها وبناءها للمساكن والتجمعات الحضرية» بحسب مختصين، كما أكّد المرجع الراحل السيِّد محمّد الشيرازي أنّ: «الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى الأفراد العنيفين وسيّئي الأخلاق، ولا يجلونهم بملء اختيارهم، وإذا حدث وإن استطاع بعض أصحاب القدرة والعنف استغفال وخداع مجموعة من الناس لفترة، فإنّ أوراقهم سرعان ما تنكشف وينقلب الأمر عليهم وينفض الناس من حولهم إن لم ينقلبوا عليهم».

العنف للتغيير

إنّ التغيير عبر السلوك العنفي واعتماده كأسلوب للتغيير الاجتماعي أو السياسي تم استخدامه بصورة مفرطة عبر التاريخ، حيث أكّد السيِّد الشيرازي ذلك بقوله إنّ: «التاريخ أعظم سجل دوّن للإنسانية على صفحاتها أغرب أساليب العنف والعدوان والتعسف الفردي تجاه الأفراد، والجماعي ضد الشعوب والمجتمعات»، لكن هل تمكن من يؤمن بالعنف كطريقة للتغيير الاجتماعي بالنجاح في إحداث تغيير إيجابي للفرد أو المجتمع؟

لمراعاة الدقة في الإجابة ينبغي دراسة كلّ حالة على حدة مع الأخذ بعين الاعتبار كلّ العوامل والظروف التي أحاطت بهذه الحالة، لكن بالمجمل يمكن القول «إنّ من يتصوّر أنّه يمكن إنقاذ الشعوب بالعنف سوف يبرهن له التاريخ عكس ذلك»، وهي حقيقة أكّد عليها المنطق والفطرة السليمة والتجارب التاريخية والمعاصرة.

وبما أنّ اللاعنف كما يعرّفه السيِّد محمّد الشيرازي بأنّه: «سلوك يرفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي أو أي مجال آخر من مجالات الحياة»، فإنّ أي وسيلة من وسائل العنف (اللفظ أو اليد أو القلب) قد تقود إلى «العنف الجسدي» لتحقيق التغيير الاجتماعي وغيره مرفوضة بطبيعة الحال، وهي لا تخدم طريق الإصلاح الذي لا يتم إلّا عبر الطُّرق السلمية وإن كانت صعبة وطويلة: «حركة الإصلاح تقوم على اللاعنف وإن كانت صعبة جدّاً على النفس، لكنّها مثمرة جدّاً في الوصول إلى الهدف، والعاقل يقدّم الصعوبة على الفشل».

الإسلام واللاعنف

إنّ الدين الإسلامي الحنيف بتعاليمه السماوية الخالدة بين للإنسانية جمعاء أنجح الطُّرق وأقصرها لتحقيق السلام ونشر التسامح واللاعنف عبر رسالته السلمية التي حثت على اللين والرحمة ونبذ القسوة والتحلي بالأخلاق السامية والنبيلة حتى مع الأعداء، ونشر السلام ونبذ العنف مهما كانت الغاية، وقد اعتبر الإمام محمّد الشيرازي أنّ: «أوّل دُعاة السلم هو الدين الإسلامي إذا أخذنا بنظر الاعتبار دعوته إلى اللاعنف كإستراتيجية لها قواعدها وأُصولها وتنظيرها الخاص بها»، كما إنّ: «الإسلام ينبذ العنف والقسوة والإرهاب قولاً وفعلاً، وقد دعا إلى اللاعنف كبديل لحلول ما يواجه الأُمّة من أزمات ومشاكل ومصاعب».

وقد مثّل رسول الله محمّد (ص) من خلال دعوته السلمية الإسلام، خير تمثيل، بالنسبة للمسلمين ولباقي الأديان حول العالم، حتى إنّ المصلحين، من غير المسلمين، الذين اتخذوا اللاعنف كأسلوب لحياتهم في إحداث التغيير الاجتماعي لمجتمعاتهم اعتبروا النبيّ محمّد (ص) أهم الأمثلة التي تأثروا بها واعتبروها صالحة لكلّ المجتمعات الإنسانية.

ومن الأمثلة على ذلك (غاندي) حكيم الهند ومصلحها، الذي كان يربط ما بين اللاعنف والأخلاق من خلال قوله «إنّني أؤمن بمبدأ اللاعنف»، وهذا الإيمان نابع من التزام أخلاقي راسخ بمبدأ اللاعنف كأسلوب لحياته وطريق لإحداث الإصلاح للمجتمع الذي عاش فيه.

غاندي قال عن الرسول محمّد (ص): «أردت أن أتعرّف على أفضل ما في حياة شخص تخفق له قلوب ملايين من بني البشر... ولقد اقتنعت أكثر من أي وقت مضى بحقيقة أنّ السيف لم يكن هو من فاز في تلك الأيام، بل كانت البساطة والحبّ والتسامح، والمحو الذاتي التام للنبيّ (ص)، والاحترام الدقيق للعهود، والتكريس العظيم تجاه أصدقائه وأتباعه، وجرأته، وقلة خوفه، وثقته التامة بالله وبرسالته، هذه القيم الإنسانية وليس السيف هو السلاح الذي اعتمده المسلمون الأوائل في انتصارهم الإنساني».

الخلاصة

من التعاريف الجميلة لمبدأ اللاعنف ما قاله الإمام محمّد الشيرازي: «هو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هداماً بكلّ لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج».

فإحداث التغيير الاجتماعي كالعلاج الذي يقدم لشفاء حالة مرضية لا يتم عبر العنف ابداً، وإنّما عبر اللين والرفق والسلم حتى يحين وقت التغيير ونجاح الإصلاح، كما إنّ تأثر المجتمع بهذه الوسائل أكثر قوة من الوسائل العنفية التي تقود إلى المزيد من العنف ودمار المجتمعات والفوضى.

إنّ اختيار اللاعنف كأسلوب ووسيلة للحياة لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل ينبغي أن تؤمن المجتمعات الإنسانية والمؤسسات والمنظمات الدولية والحكومات والدول بضرورة هذا الاختيار واعتباره البديل الناجح لتحقيق السعادة والأمن والرفاه والسلم العالمي، وعلى الجميع (فرد، منظمة، مؤسسة، مجتمع، دولة) ممارسة دوره في إنجاح وترسيخ هذا المبدأ الإنساني من خلال:

1- دعم المؤسسات والمنظمات الدولية والمحلية الراعية لنشر اللاعنف واعتباره الطريق الأنجح للإصلاح والتغيير.

2- تربية الأجيال على مفاهيم اللاعنف والتسامح والدعوة السلمية مع إيضاح مخاطر العنف وسلوكه وأساليبه حتى في حال كان الهدف من وراءه تحقيق الخير.

3- الترويج لمبدأ اللاعنف عبر مختلف وسائل الإعلام من خلال التعريف به وبفوائده وآثاره الإيجابية للفرد والمجتمع.

4- مكافحة ونبذ الأعراف والتقاليد المجتمعية التي تحرّض على استخدام العنف والقسوة وإحلال رسالة اللاعنف والتسامح محلها، وهو جهد تقوم مسؤوليته على الجميع.

5- الإصلاح وممارسة اللاعنف في التغيير ينطلق من الأُسرة نحو المجتمع، لذا ينبغي نشر ثقافة اللاعنف داخل الأُسرة قبل تعميمها على المجتمع ككلّ.

6- الجهد الحكومي ينبغي أن يكون مضاعفاً في الدعوة إلى اللاعنف، بل وينبغي على جميع الحكومات أن تؤمن بهذه الدعوة وتطبق اللاعنف في قوانينها وأنظمتها مع رعيتها حتى يتحقق لها النجاح والاستمرار.

7- المدرسة بعد الأُسرة محور أساسي في تعليم اللاعنف كمنهج تربوي يساهم في تعليم الفرد على نبذ العنف والكراهية وترسيخ مفاهيم التعايش والتسامح، لذلك فإنّ العنف المدرسي الجسدي واللفظي يؤدي إلى التشوية الأخلاقي لنمو الأطفال ويؤدي إلى تضخم التوحش.

8- وضع الخطط الاقتصادية والاجتماعية لتقليص الفقر والتفاوت والبطالة خصوصا بين الشباب، فهذه العوامل أكبر المخاطر التي تؤدي إلى تصاعد اليأس والإحباط المنتجة للعنف.

9- نبذ الاستبداد ومواجهة الفساد اللذان يعدان مستنقعاً لانتشار وباء العنف، من خلال ترسيخ النزاهة السياسية عبر الشفافية في العملية الانتخابية والتداول السلمي للسلطة، وحماية حرية التعبير والتفكير النقدي وحقوق الإنسان، وتعزيز التعددية والتنوع الثقافي والفكري.

 

المصادر

1- مساوئ الفرقة، الإمام محمّد الحسيني الشيرازي.

2- شبكة النبأ المعلوماتية.

ارسال التعليق

Top